القواعد الفقهية15
الخميس فبراير 23, 2012 7:58 pm
القاعدة الخامسة عشر
لا تقبل العبادة إلا بالإخلاص والمتابعة
لا تقبل العبادة إلا بالإخلاص والمتابعة
وهذه القاعدة تبين شرطي قبول الأعمال وبيانها أن يقال : إن
الأعمال الشرعية لا تقبل أبدًا إلا إذا توفر فيها شرطان : الأول :
الإخلاص ومعناه أن يكون الباعث لك على هذا العمل إرادة التقرب لله تعالى وامتثال
أمره وطاعة الرسول r ، والقيام
بما أوجب الله عليك ، ورجاء الجنة بهذا العمل ، فهذه هي النية الواجبة في العبادة ،
وهذا هو الإخلاص الذي أمرنا به الله جل وعلا ، قال تعالى : ] وَمَا
أمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَـهُ الدِّيـنَ حُنَفَـاءَ
[ وقـال
تعالى : ]
فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ
[ وقال
النبي r : ( فمن
كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله .. الحديث ) ، وقال : ( من قاتل
لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) فلا نفاق ولا رياء ، أما من قصد غير
ذلك من المقاصد الدنيوية كرياسة أو منصب أو حب شهرة ومدحٍ وثناءٍ من الناس فإن عمله
هذا ليس له حظ من القبول ، للإخلال بشرط الإخلاص فلا يقبل العمل إلا بإخلاص .
فالعامل لا
تخلو نيته من ثلاث حالات : إما أن لا يقصد بعمله إلا الله جل وعلا ،
وإما أن لا يقصد إلا الدنيا وزينتها ، وإما أن يشرك في القصد بين
الله وبين المخلوق ، ففيه قصد لله لكن فيه حب المدح والثناء أو يريد المنصب والجاه
.
فأما الأول
: فهو مقبول لتحقق شرط الإخلاص فيه . وأما الثاني : فهو
مردود لتخلف الإخلاص . وأما الثالث : ففيه شائبتان لكنه مردود أيضاً
وذلك لأمرين :
أحدهما
: أن أبا هريرة قال : قال رسول الله r : ( قال
الله تعالى : أنا أغنى الشركــاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري ،
تركته وشركه ) رواه مسلم . فقوله : ( أشرك معي فيه غيري ) يدل على أن النية فيها
تشريك أي أنه جعل مع الله شريك في هذا العمل ومن فعل ذلك فجزاؤه أن يتركه الله
وشركه ، أي أن عمله هذا غير مقبول .
الثاني
: أن كلمة الإخلاص في قولنا : ( مبنى الأعمال على الإخلاص ) تفيد
التخلص من غير قصد القربة لله تعالى ، فلا يقصد إلا القربة ، فنيته خالصة من
الشوائب وإذا نوى الإنسان مع الله غيره فإنه نيته لم تخلص وإنما شركت ، فتخلف
الإخلاص فلا يقبل بدونه العمل ، وسيأتي تفصيل ذلك في آخر القاعدة - إن شاء الله
تعالى - ، والمهم : أن الإخلاص شرط من شروط صحة العمل . ثم اعلم أن النية
نيتان : نية إيقاع العمل ، ونية القربة لله بهذا العمل ، فأما الأولى
: فلا يتصور تخلفها عن عاملٍ أبدًا إذ هي من ضروريات العمل فإن كل من أراد
عملاً نوى عمله قبل الدخول فيه وهي المرادة بقولنا : ( النية تتبع العلم )
فمن علم أنه يعمل كذا فقد نواه ، وهذه شرط في صحة العمل ، حتى قال بعضهم : ( لو
كلفنا الله أن نعمل عملاً بلا نية لكلفنا بالمحال) . وأما النية الثانية
: فهي النية المقصودة بالإخلاص التي مدار قبول الأعمال عليها وهي التي يحصل
بها الثواب وهي المرادة بالقول : ( نية المرء أبلغ من عمله ) وهي التي
لا يصح التشريك فيها ، فيجب على كل من عمل عملاً أن ينوي به القربة إلى الله تعالى
وامتثال أمره ، والله تعالى أعلم .
ثم اعلم أن
الرياء إذا دخل في العمل فلا يخلو من حالتين : إما أن يكون من أوله وإما أن
يكون طارئاً عليه ، فإن كان من أوله فإن العبادة باطلة كلها ، وإن كان الرياء
طارئاً على العمل فلا يخلو إما أن لا يسترسل معه ويدفعه عن نفسه بما يستطيع وإما أن
يسترسل معه ويرضى به ولا يدفعه عن نفسه ، فإن كان الأول فلا يضره أبدًا بل يؤجر على
هذه المدافعة ، وإن كان الثاني فلا يخلو إما أن يكون هذا العمل مما ينبني صحة أوله
على صحة آخره كالصلاة ، وإما أن لا ينبني ذلك ، فــإن كان الأول فإن العمل يبطل
كله، وإن كان الثاني فإنه لا يبطل إلا العمل الذي خالطه الرياء كالصدقة وقراءة
القرآن وأيام الصوم ونحو ذلك ، وهذا يدل على خطر الرياء ووجوب الإخلاص ، وفروعها
كثيرة جداً وفيما مضى كفاية - إن شاء الله تعالى - .
فهذا هو
الشرط الأول وهو الإخلاص .
أما الشرط
الثاني : فهو
المتابعة وهو أن تفعل العبادة ذات الكيفية على الكيفية التي فعلها بها رسول الله
r بلا زيادة
ولا نقصان ، فنصلي كما صلى ، ونصوم كما صام ، ونحج كما حج وهكذا ، وقد دل على
اشتراط هذا الشرط أدلة كثيرة فكل آية فيها أن النبي r قدوة لنا
وأسوة فهي دليل على وجوب متابعته في ذلك ، وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال
رسول الله r : ( من
أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) والمراد بأمرنا ديننا وشريعتنا ، ومعنى (
فهو رد ) أي مردود على صاحبه بمعنى أنه ليس بصحيح ولا يقبل ، وفي رواية مسلم :
( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌ ) ومن متابعته r أن يحرص
المسلم على أمور وهذا في العبادات قولية كانت أو فعلية :
الأول
: الكيفية : وهو أن
نوافقه في كيفيتها وكما قال r : ( خذوا
عني مناسككم ) وقال : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) فمن فعل عبادة لها كيفية بكيفية
مخالفة لما جاء به الرسول r فعبادته
باطلة ؛ لأنها ليست من أمره r .
الثاني
: المكان : فإذا كانت
هذه العبادة قد خصص لأدائها مكانًا معينًا فإنه لا يجوز فعلها في غيره إلا بدليل
يصححها فيه ، وذلك كالحج والطواف والسعي وذبح الهدي ، فالحج له مكان معين وشعائر
معروفة في أمكنة معروفة كعرفةٍ ومزدلفة ومنى ورمي الجمار ونحوه فلا يصح الحج إلا في
هذه الأمكنة فلابد من موافقة النبي r ومتابعته
في المكان ، والطواف عبادة لا يشرع إلا بمكان واحد وهو في البيت الحرام حول الكعبة
فقط فمن طاف بغيره فطوافه باطل للمخالفة في المكان ، والهدي لا يذبح إلا بمنى وليس
في الأمصار هدي وإنما الأضاحي فقط ، والفروع كثيرة .
الثالث
: الزمان : فإذا كانت
هذه العبادة لها زمان معين لا تصح إلا فيه فلا يجوز فعلها في غيره فيلزم متابعة
النبي r في زمانها
كالحج له زمان معين وأوقات الصلوات وشهر رمضان كل هذه عبادات لها أزمنة معينة فلا
يجوز إيقاعها إلا في أوقاتها ولذلك قعّد العلماء هذه القاعدة ( أن العبادة
المؤقتة بوقتٍ تفوت بفوات وقتها ) ، أما العبادات المطلقة كالتطوع المطلق
بالصلاة أو الصوم فهذا يفعل في كل وقت إلا فيما نهي عنه كالأوقات الخمسة بالنسبة
للصلاة ، وكإفراد يوم الجمعة وكصوم العيدين وأيام التشريق بالنسبة للصوم
الرابع
: القدر : فإذا حددت
الشريعة لهذه العبادة قدرًا معينًا فإنه لا يجوز لأحد أن يزيد عليه أو ينقص منه ولا
تصح بهذه الزيادة أو النقصان إلا بدليل يصححها وإلا فلا ، ومن ذلك أعداد ركعات
الصلوات ورمي الجمار وعدد الطواف والسعي ومقادير الزكاة والكفارات والحدود ونحوها
فهذه قدرت بمقادير فيجب على المسلم متابعة النبي r في قدرها
، فإذا كمل المؤمن هذه المراتب فقد كمل مراتب المتابعة للنبي r ، وإذا
تخلف منها شيء فإن يتخلف من المتابعة بقدرها ، ثم يجب علينا أن ننبه لأمر وهو أن
العبادة قد تكون مشروعة بأصلها ممنوعة بوصفها ، وهذا يقع فيه الناس كثيرًا ، وبيان
ذلك أن يقال: إن بعض الناس يفعلون عبادات قد حددوها بزمانٍ أو مكانٍ معين
يعتقد فيه الفضيلة ، فإذا أنكرت عليهم احتجوا عليك بالأدلة التي تدل على شرعية هذه
العبادة ولكنهم لا يأتون بدليل يدل على فعلها في هذا الوقت أو المكان بعينه ، وهذا
لا يكفي إذ أدلة إثبات العبادة شيء وتخصيص فعلها في زمانٍ أو مكانٍ يعتقد أن فعلها
فيه أفضل شيء آخر ، فلا يخلط بين هذا وهذا ، ولذلك فلنعلم أن من اعتقد في عبادةٍ
مَّا أن فعلها في وقتٍ أو مكانٍ مَّا أفضل من فعلها في بقية الأزمنة والأمكنة فهو
مبتدع وما فعله بدعة لأن مجرد هذا التخصيص الزمني والمكاني يحتاج إلى دليلٍ زائد
ولا يكفي فيه مجرد الأدلة التي تدل على مشروعية هذه العبادة مطلقاً ، ومثال ذلك
الذكر ، فإن الأصل أنه جائز في كل زمانٍ ومكان إلا ما ورد الدليل بالمنع منه فيه
كالخلاء ونحوه ، لكن من خصص الذكر بزمانٍ معين أو مكانٍ معين أو على صفة معينة فإن
هذا التخصيص يحتاج إلى دليل زائد على مجرد أدلة مشروعية الذكر ، والغريب أننا إذا
أنكرنا عليهم هذا التخصيص احتجوا علينا بقوله تعالى : ]
اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [ ، وقوله :
]
وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [ وقوله
r : ( لا
يزال لسانك رطباً بذكر الله ) ونحو ذلك من النصوص الدالة على مشروعية الذكر
فيقال لهم : الذكر لنا فيه نظران : نظر من ناحية أصله ومشروعيته ، ونظر من
ناحية تخصيصه بزمان أو مكان أو صفة معينة ، فأما من ناحية أصله ومشروعيته فلا ننازع
فيه ولا ننكره طرفة عين ، لكن من ناحية هذا التخصيص هو الذي ننكره وننازع فيه ونعده
بدعة إلا بدليل يدل عليه ، وذلك كالأذكار الجماعية والأذكار المنتشرة عند الصوفية
وقول بعض الناس عند قول الإمام ( إياك نعبد وإياك نستعين ) يقول : استعنا
بالله ، أو لا نستعــين إلا بالله ، كل ذلك مما لا ننازع في أصله وإنما ننازع في
وصفه ، إذا علم هذا فليعلــم أن الأصــل هــو إطلاق العبادات وأنها لا تخصص بزمان
ولا مكانٍ ولا صفة ثم جاءت الأدلة بتخصيص بعضها بزمانٍ ومكانٍ وصفة فما دل الدليل
الشرعي الصحيح على تخصيصه بشيء فإننا نقول به ، وإن لم يدل دليل على هذا التخصيص
فالبقاء على الأصل هو المتعين ومن خصص عبادة بشيءٍ بلا دليل فقد جاء بما لم يأت به
رسول الله r وحينئذٍ
نقرر له الأدلة أن الرسول لم يأت بذلك فإذا أقر واعترف بذلك وأصر فلا يخلو إصراره
من أحد حالين : إما لاعتقاده أنه يفعل ويحرص على الخير أكثر من رسول الله
r وهذا ضلال
مبين وفتنة عظيمة ، وإما لاعتقاده أن هذا من الشرع الذي كتمه رسول الله
r ولم يبلغه
للأمة وهو أخطر من الأول ، فالواجب إذا بان للإنسان خطأ في شيء من الأقوال أو
الأفعال التي اعتاد عليها ، الواجب عليه أن يتركه ويتبع الحق ، ولا يوزن الحق
بالرجال وإنما يوزن الرجال بالحق ، وكل قولٍ فهو تابع لأقوال الشريعة لا يتقدم
عليها وإنما هو تبع لها ، فما وافقها قبلناه وما خالفها رددناه والمتابع لا يتقدم
على متبوعه ، ولأهمية الأمر وكثرة اللبس فيه جرى التنبيه ، والله أعلم .
وخلاصة
الكلام أن كل عبادة لا تصح إلا بإخلاص ومتابعة ، والله تعالى أعلى وأعلم وصلى الله
على نبينا محمد .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى