القواعد الفقهية16
الخميس فبراير 23, 2012 8:00 pm
اعلم أن الشريعة عندنا قسمان
: إما مأمور به وإما منهي عنه ولا ثالث لها، والمأمور به إما أمر استحباب
وإما أمر إيجاب ، والمنهي عنه إما نهي كراهة وإما نهي تحريم ، وهذه القاعدة خاصة
بالمنهيات فيدخل فيها نصف الشريعة إذا علمت هذا فاعلم أن الله جل وعلا إذا حرم
علينا فعلاً أو قولاً من الأفعال والأقوال ، أنه لا يجوز فعله ولا الإقدام عليه ،
لكن لو فعله أحد فهل يأثم أو يترتب عليه ما يترتب على فعله ؟
الجواب
: أن يقال قبل الحكم بالتأثيم وترتيب ما يترتب عليه كالكفارات
والحدود ونحوها يجب علينا أن ننظر في ثلاثة أمور راجعة إلى المكلف فإذا تحققت فيه
أجرينا عليه آثار فعل المنهي من الإثم والعقوبة ، وإن تخلف واحد منها فإن ارتكابه
للنهي لا تترتب عليه آثاره ، وهذا عام ومطرد في كل الفروع ولا يشذ منه فرع إلا
بدليل .
الأول :
العلم : أي أن
يعلم المكلف أن هذا الفعل أو هذا القول منهي عنه ، فإذا قاله أو فعله ولم يعلم حكمه
ومثله يجهل كحديث الإسلام أو من نشأ ببادية بعيدة عن العلم والعلماء أو كان فعله
وقاله ويغلب على الظن أنه لا يأثم به ، فهذا لا يؤاخذ بفعله للمنهي عنه أبداً لأن
الشريعة أمرًا ونهيًا لا تثبت في حق المكلف إلا إذا علمها ، ودليل اشتراط هذه الشرط
أمور :
منها
: قوله تعالى : ] وَمَا
كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا[ فالله عز
وجل نفى أن يعذب أحدًا إلا بعد بعثة الرسل لتقوم الحجة على الناس ، ومن لا يعلم
الحكم ومثله يجهل فالحجة الرسالية لم تقم عليه بعد ، ومن لم تقم عليه الحجة
الرسالية فإن الله لا يعذبه .
ومنها
: جميع الآيات التي تبين عدم تكليف النفس ما لا تطيق ، فهي تدل على
اشتراط العلم لأن التكليف بما لم يعلم تكليف بما لا يطاق ، وهو منفي شرعًا .
ومنها
: حديث ابن عمر في أهل قباء أنه لما حولت القبلة خرج رجل ممن صلى مع
النبي r فمر بأهل
قباء وهم يصلون الصبح فقال : أشهد بالله أن النبي r قد أنزل
عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، فاستداروا كما هم إلى
الكعبة ولم تبطل صلاتهم مع أنهم افتتحوا الصلاة إلى القبلة المنسوخة ، لكن لما لم
يأمرهم بالإعادة دل ذلك على أنه لم يؤاخذهم مما يدل على عفوه عنهم لعدم علمهم بذلك
ولم يأمرهم بالإعادة مما يدل على اشتراط العلم بالمكلف به حتى يترتب عليه أثره
.
ومنها :
حديث عدي بن حاتم أنه لما نزلت ]
وَكُلُوا وَاشْـرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ
الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ [ قال :
عمدت لعقالين فوضعتهما تحت وسادتي فأكلت وشربت حتى طلع الصبح فأخبرت النبي
r بذلك فقال
: ( إنك لعريض الوساد ، إنما هو ظلمة الليل نور الصبح ) أو كما قال r ولم يأمره
بإعادة ذلك اليوم ؛ لأنه يجهل الحكم فارتكب الحرام الذي هو الأكل والشرب في نهار
رمضان وهو لا يعلم أنه حرام فلم يؤاخذه رسول الله r مما يدل
على اشتراط العلم .
ومنها
: حديث عمار وفيه أنه خرج هو وعمر - رضي الله عنهما - فأجنبا فتمرغ عمار في الصعيد كما تمرغ الدابة ، ولم يتيمم عمر
ولم يصل فلما أخبرا رسول الله r خطأهما وبين لهما الصواب(1)
. المهم أنه لم يأمرهما بالإعادة مع أن عمار لم يتيمم التيمم الشرعي بالصفة الشرعية
وعمر لم يصل ، ولو كان أمرهما بالإعادة لنقل ، فلم لم يأمرهما بالإعادة دل على أنه
لم يؤاخذهما لجهلهما بالحال فدل ذلك على اشتراط العلم والأدلة كثيرة وفيما مضى
كفاية .
وأما الثاني : فهو (الذكر) : وضده النسيان ، فالناسي لا يؤاخذ بفعل المنهي عنه إنما يؤاخذ بترك
المأمور كما مضى ، فمن فعل المنهي عنه ناسيًا له فلا يؤثر ذلك كما قال تعالى :
] رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أوْ أخْطَأْنَا
[ قال الله : ( قد فعلت ) كما في مسلم وغيره ، ودلالتها واضحة ،
وقال رسول الله r : ( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) وسنده
حسن ، ودلالته واضحة أيـضًا . وقال r : ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا أصبح أو ذكر لا كفارة لها إلا
ذلك ) فأسقط إثم من ترك الصلاة ناسياً وذلك دليل على اشتراط الذكر .
ومنها : الأدلة التي تدل على صحة من زاد أو نقص في الصلاة سهوًا ونسيانًا ،
بخلاف العامد وهي كثيرة كحديث ابن مسعود وابن سيرين عن أبي هريرة وابن بحينة
وغيرها كلها تدل على أن الناسي لا يؤاخذ
إذا ارتكب المحرم .
الثالث : ( الإرادة ) : أي أن يفعل الإنسان المنهي عنه وهو مريد لفعله مختار له أما إذا فعله مكرهًا عليه أيًا كان هذا الإكراه
ملجئاً أو غير ملجئ فإنه لا يترتب عليه أثر فعل المنهي عنه ، والذي يدل على ذلك
قوله تعالى : ] مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلا مَنْ أكْرِهَ
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [ فأجاز الله جل وعلا النطق أو فعل الكفر حالة الإكراه عليه مع شرط
اطمئنان القلب بالإيمان . وقيس على ذلك باقي المنهيات من باب أولى ؛ لأن أعظم
الذنوب هي الشرك والكفر .
ومن ذلك : قوله r في الحديث السابق : ( وما استكرهوا عليه ) وهو عام في أي إكراه ، إذًا
وبعد هذا عرفنا أن الإنسان إذا فعل المحرم بعلمٍ وذكرٍ وإرادةٍ أنه يأثم ويترتب
عليه أثر المنهي عنه . أما إذا اختل شرط منها فإنه لا يأثم ، ولا يترتب عليه أثر
المنهي عنه.
وبالفروع تتضح القاعـدة أكثر فأقول :
منها : محظورات الصوم التي من فعل المكلف من أكل أو شرب وحجامةٍ وقيءٍ يشترط
حتى تكون مفسدة للصوم أن يفعلها الإنسان وهو عالم بحكمها وذاكر لها ومريد لفعلها
حتى الجماع ولا يشذ عن ذلك شيء ، وقد قال النبي r : ( من أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه ) أما إذا
فعلها وهو جاهل بحكمها أو ناسٍ لها أو مكرهٌ عليها فإنه لا يؤثر ذلك في صحة صومه ،
والله أعلم .
ومنها : محظورات الصلاة كالكلام والأكل والشرب والنجاسة ونحوها إذا فعلها
الإنسان فإنه لا يؤاخذ بها إلا إذا توفرت فيه هذه الشروط الثلاثة . أما إذا اختل
شرط منها فإن صلاته صحيحة ولا إعادة عليه ، والله أعلم .
ومنها : محظورات الحج كالتطيب وعقد النكاح والحلق وتقليم الأظافر والصيد ونحوها
كل ذلك لا يؤثر ولا يوجب فدية إلا إذا فعله الإنسان وهو عالم بالحكم وذاكر له
ومختار . أما إذا فعلها وهو جاهل بها أو ناسٍ أو مكـرهٌ فإنها لا تضره ولا فدية
عليه ولا يشذ منها شيء أبدًا لا الصيد ولا الحلق . والله أعلم .
ومنها : من شرب الخمر وهو يجهل كونها خمرًا أو لكونه ناسيًا أنها خمرٌ أو
لضرورة ملجئة كدفع غصة أو بإكراه عليها فإنه لا يأثم أبدًا ولا حد عليه .
ومنها : من ترك الصلاة ناسيًا لها أو مكرهًا على تركها فإنه لا يأثم ولكن عليه
فعلها إذا ذكرها أو زال الإكراه كما في حديث أنس .
ومنها : من باع بعد نداء الجمعة الثاني ناسيًا أو جاهلاً للحكم فإنه لا يأثم
والبيع صحيح أصلاً لأنه تخلف عنه شرط العلم والذكر ولا يؤثر فعل المنهي عنه إلا
بهما ، وعلى ذلك فقس .
مسألـة : اعلم أن هناك فرقًا بين ترتب الإثم وبين الضمان ، فقد يفعل الإنسان
فعلاً محرمًا لكنه لا يأثم إلا أنه يجب عليه كفارة أو ضمان كالإتلاف وقتل النفس خطأ
ذلك ؛ لأن الضمان ليس من الأحكام التكليفية وإنما هو من قبيل ربط الأحكام بأسبابها
فهو حكم وضعي فلا يشترط فيه العلم والذكر والإرادة .
وبالمثال يتضح الأمر ويزول الإشكال فأقـول :
منها : من قتل غيره جهلاً بحرمة القتل أو خطأً فإنه لا يجب عليه القصاص ؛ لأنه
فعل المنهي عنه جاهلاً ومخطئًا لكنه يضمن النفس بالدية .
ومنها : من أكره على إحراق مال غيره فأحرقه فإنه لا يأثم لكن عليه ضمان المال
أو على مكرهه .
ومنها : من أتلف بكارة امرأة يظن أنها زوجته فبانت أنها ليست بزوجته فلا حد
عليه ولا إثم لكن عليه ضمان ذلك بالمال .
إذًا هناك فرق بين ترتب الإثم وترتب الضمان ، فلا يترتب الإثم إلا
بالشروط الثلاثة وأما الضمان فإن سببه الإتلاف بغض النظر عن المتلف ، بل الضمان
يكون بإتلاف غير المكلف كالمجنون والبهيمة ذلك لأنه من الأحكام الوضعية لا
التكليفية ، والله تعالى أعلم .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى